فصل: ذكر وفاة الملك طغرل وملك مسعود بلد الجبل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون وصعدوا إليه وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة أغار الأمير أسوار مقدم عسكر زنكي بحلب على ولاية تل باشر فغنم الكثير فخرج إليه الفرنج في جمع كثير فقاتلوه فظفر بهم وأكثر القتل فيهم وكان عدة القتلى نحو ألف قتيل وعاد سالمًا‏.‏

وفيها تاسع ربيع الآخر وثب على شمس الملوك صاحب دمشق بعض مماليك جده طغدكين فضربه بسيف فلم يعمل فيه شيئًا وتكاثر عليه مماليك شمس الملوك فأخذوه وقرر ما الذي حمله على ما فعل فقال‏:‏ أردت إراحة المسلمين من شرك وظلمك ولم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك فقتلهم شمس الملوك من غير تحقيق وقتل معهم أخاه سونج فعظم ذلك على الناس ونفروا عنه‏.‏

وفيها توفي الشيخ أبو الوفاء الفارسي وكان له جنازة مشهودة حضرها أعيان بغداد‏.‏

وفيها في رجب توفي القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة بن عبد الله ابن مخلد المعروف بابن

الرطبي الفقيه الشافعي قاضي الكرخ وتفقه على أبي إسحاق وأبي نصر بن الصباغ وسمع الحديث ورواه وكان قريبًا من الخليفة يؤدب أولاده‏.‏

وتوفي أبو الحسين علي بن عبد الله بن نصر المعروف بابن الزاغوني الفقيه الحنبلي الواعظ وكان ذا فنون توفي في المحرم‏.‏

وتوفي علي بن يعلى بن عوض بن القاسم الهروي العلوي كان واعظًا وله بخراسان قبول كثير وسمع الحديث الكثير ومحمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله العثماني الديباجي وهو من أولاد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان‏.‏

وكان محمد يلقب بالديباج لحسنه وأصله من مكة وهو من أهل نابلس وكان مغاليًا في مذهب الأشعري وكان يعظ‏.‏

توفي في صفر‏.‏

وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة وولي الإمارة بعده ابنه القاسم‏.‏

وفيها توفي العزيز بن هبة الله بن علي الشريف العلوي الحسيني فجأة بنيسابور‏.‏

وكان جده نقيب النقباء بخراسان‏.‏

وعرض على العزيز هذا نقابة العلويين بنيسابور فامتنع وعرض عليه وزارة السلطان فامتنع ولزم الانقطاع والاشتغال بأمر آخرته‏.‏

وفيها توفي قاضي قضاة خراسان أبو سعيد محمد بن أحمد بن صاعد وكان خيرًا صالحًا‏.‏

  ذكر ملك شمس الملوك شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج

في هذه السنة في المحرم سار شمس الملوك إسماعيل من دمشق إلى شقيف تيرون وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به فتحاماه المسلمون والفرنج يحتمي على كل طائفة بالأخرى فسار شمس الملوك إليه

في هذه السنة وأخذه منه في المحرم وعظم أخذه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له فخافوا شمس الملوك فشرعوا في جمع عساكرهم فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران فخربوا أمهات البلد ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة‏.‏

وكان شمس الملوك لما رآهم يجمعون جمع هو أيضًا وحشد وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم فنزل بإزاء الفرنج وجرت بينهم مناوشة عدة أيام ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره وجعل الباقي قبالة الفرنج وهم لا يشعرون وقصد بلادهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد وسبى النساء والذرية وامتلأت أيدي من معه من الغنائم واتصل الخبر بالفرنج فانزعجوا ورحلوا في الحال لا يلوي أخ وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج فوصل سالمًا ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خرابًا ففت في أعضادهم وتفرقوا وراسلوا في تجديد الهدنة فتم ذلك في ذي القعدة للسنة‏.‏

  ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام الملك مسعود

في هذه السنة عاد الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ملك بلاد الجبل جميعها وأجلى عنها أخاه السلطان مسعودًا‏.‏

وسبب ذلك أن مسعودًا لما عاد من حرب أخيه بلغه عصيان داود ابن أخيه السلطان محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره بقلعة روئين دز وكان قد تحصن بها واشتغل بحصره فجمع الملك طغرل العساكر ومال إليه بعض الأمراء الذين مع السلطان مسعود ولم يزل يفتح البلاد فكثرت عساكره وقصد مسعودًا فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه فلما تراءى العسكران فارق مسعودًا من أمرائه من كان قد استماله طغرل فبقي في قلة من العسكر فولى منهزمًا أواخر رمضان‏.‏

وأرسل المسترشد بالله في القدوم إلى بغداد فأذن له وكان نائبه بأصفهان البقش السلاحي ومعه الملك سلجوقشاه فلما سمع بانهزام مسعود قصد بغداد أيضًا فنزل سلجوقشاه بدار السلطان فأكرمه الخليفة وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار ثم قصد مسعود بغداد وأكثر أصحابه ركاب جمال لعدم ما يركبونه ولقي في طريقه شدة فأرسل إليه الخليفة الدواب والخيام والآلات وغيرها من الأموال والثياب فدخل الدار السلطانية ببغداد منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان‏.‏

  ذكر حصر أتابك زنكي آمد والحرب بينه وبين داود وملك زنكي قلعة صور

في هذه السنة اجتمع أتابك زنكي صاحب الموصل وتمرتاش صاحب ماردين وقصدا مدينة آمد فحصراها فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا يستنجده فجمع من أمكنه جمعه وسار نحو آمد ليرحلهما عنها فالتقوا على باب آمد وتصافوا في جمادى الآخرة فانهزم داود وعاد مفلولًا وقتل جماعة من عسكره‏.‏

وأقام زنكي وتمرتاش على آمد محاصرين لها وقطعا الشجر وشعثا البلد وعادا عنها من غير بلوغ غرض فقصد زنكي قلعة الصور من ديار بكر وحصرها وضايقها فملكها في رجب من هذه السنة واتصل به ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي فاستوزره زنكي وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محبًا للخير وأهله‏.‏

  ذكر ملك زنكي قلاع الأكراد الحميدية

في هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلاع العقر وقلعة شوش وغيرهما‏.‏

وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها ولم يعترضه على شيء مما هو بيده فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده وجمع الأكراد عنده فأكثر فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تحصر قلاعهم فحصرت مدة طويلة وقوتلت قتالًا شديدًا إلى أن ملكت هذه السنة فاطمأن إذًا أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد‏.‏

  ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشي

وحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له وحمل إليه مالًا وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات فدفن بتل توبة‏.‏

ولما سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها خوفًا أن يتغلب عليها وأعطاه قلعة نوشى وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام‏.‏

ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كرديًا يقال له باو الأرجي فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد بن نوشى إلى أشب ليملكها فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها‏.‏

وسبب ملكهم أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال فتركهم زنكي حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا فوضع السيف فيهم فأكثر القتل والأسر وملك زنكي القلعة في الحال وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم وعاد عنها إلى الموصل ثم سار عنها ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي وخرب أشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب وهي قلعة العمادية وأرسل إلى قلعة الشعباني وفرح وكوشر والزعفران وألقى ونيروة وهي حصون المهرانية فحصرها فملك الجميع واستقام أمر الجبل والزوزان وأمنت الرعايا من الأكراد‏.‏

وأما باقي قلاع الهكارية جل صورا وهرور والملاسي ومابرما وبابوخا وباكزا ونيسباس فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي وقراجة هذا كان أميرًا قد أقطعه زين الدين علي بلد الهكارية بعد قتل زنكي ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هاهنا‏.‏

وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد وخالف فيه فقال‏:‏ إن زنكي لما فتح قلعة أشب وخربها وبنى قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جل صورا وصاحب هرور ولم يكن لهما شوكة يخاف منها عاد إلى الموصل فخافه أصحاب القلاع الجبلية فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية وألقى وفرح وغيرها وملكها بعده ولده علي وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي وكانا بالموصل فأرسلها ولدها علي إلى أخويها وطلبا له الأمان من زنكي وحلفاه له ففعل ونزل إلى خدمة زنكي وأقره على قلاعه واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وقربه منه لكبره وقلة أعماله‏.‏

وكان نصير الدين جقر يكره عليًا صاحب الربية وغيرها فحسن لزنكي القبض عليه فأذن له في ذلك فقبض عليه ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات

قيل إن نصير الدين قتله‏.‏

ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوهاا بغتة فملكوها في ساعة وأسروا كل من بها من ولد علي وإخوته وأخواته وكانت والدة علي خديجة غائبة فلم توجد فلما سمع زنكي الخبر بفتح الربية سره وأمر أن تيسر العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي فسارت العساكر فحصروها فرأوها منيعة فراسلهم زنكي ووعدهم الإحسان فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم فلم يجبهم إلى ذلك إلا أن يسلموا أيضًا قلعة كواشى فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى واسمه خول وهرون وهو من المهرانية فسألته النزول عن كواشى فأجابها إلى ذلك وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى فلم يسمع بمثل هذا فقال ينزل من مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته وإما أن يكون أقل الناس عقلًا واستقامت ولاية الجبال‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أوقع الدانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام فقتل كثيرًا منهم وأسر كثيرًا وفيها اصطلح الخليفة وأتابك زنكي وفيها في ربيع الأول عزل شرف الدين أنوشروان بن خالد عن وزارة الخليفة وفيها توفيت أم المسترشد بالله وفيها سير المسترشد بالله عسكرًا إلى وفيها اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش وحصروا قلعة كردكوه بخراسان وهي للإسماعيلية وضيقوا على أهلها وطال حصرها وعدمت عندهم الأقوات فأصاب أهلها تشنج وكزاز وعجز كثير منهم عن القيام فضلًا عن القتال فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش فقيل إنهم حملوا إليه مالًا كثيرًا وأعلاقًا نفيسة فرحل عنهم‏.‏

وفيها توفي الأمير سليمان بن مهارش العقيلي أمير بني عقيل وولي الإمارة بعده أولاده مع صغر سنهم وطيف بهم في بغداد رعاية لحق جدهم مهارش فإنه هو الذي كان الخليفة القائم بأمر الله عنده في الحديثة لما فعل به البساسيري ما ذكرنا‏.‏

وفيها في المحرم توفي الفقيه أبو علي الحسن بن إبراهيم بن فرهون الشافعي الفارقي ومولده بميافارقين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وتفقه بها على أبي عبد الله الكازروني فلما توفي الكازروني انحدر إلى بغداد وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر الصباغ وولي القضاء بواسط وكان خيرًا فاضلًا لا يواري ولا يحابي أحدًا في الحكم‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أحمد بن الحسن أبو محمد بن أبي بكر الفقيه الشافعي تفقه على أبيه وأفتى وناظر وكان يعظ ويكثر في كلامه من التجانس فمن ذلك قوله‏:‏ أين القدود العالية والخدود الوردية ملئت بها والله العالية والوردية وهما مقبرتان بنهر المعلى ومن

الدمع دمًا يسيل من أجفاني إن عشت مع البكا فما أجفاني سجني شجني وهمني سماني العاذل بالملام قد سماني والذكر لهم يزيد في أشجاني والنوح مع الحمام قد أشجاني ضاقت ببعاد منيتي أعطاني والبين يد الهموم قد أعطاني وفيها توفي ابن أبي الصلت الشاعر ومن شعره يذم ثقيلًا‏:‏ لي صديق عجبت كيف استطاعت هذه الأرض والجبال ثقله أنا أرعاه مكرمًا وبقلبي منه ما ينسف الجبال أقله هو مثل المشيب أكره رؤياه ولكن أصونه وأجله وله أيضًا‏:‏ ساد صغار الناس في عصرنا لا دام من عصر ولا كانا كالدست مهما هم أن ينقضي صار به البيدق فرزانا وفيها توفي محمد بن علي بن عبد الوهاب أبو رشيد الفقيه الشافعي من أهل طبرستان وسمع الحديث أيضًا ورواه وكان زاهدًا عابدًا أقام بجزيرة في البحر سنين منفردًا يعبد الله سبحانه

  ذكر وفاة الملك طغرل وملك مسعود بلد الجبل

قد ذكرنا قدوم السلطان مسعود إلى بغداد منهزمًا من أخيه الملك طغرل بن محمد فلما وصل إلى بغداد أكرمه الخليفة وحمل إليه ما يحتاج إليه مثله وأمره بالمسير إلى همذان وجمع العساكر ومنازعة أخيه طغرل في السلطنة والبلاد ومسعود يعد ويدافع الأيام والخليفة يحثه على ذلك ووعده أن يسير معه بنفسه وأمر أن تبرز خيامه إلى باب الخليفة‏.‏

وكان قد اتصل الأمير البقش السلاحي وغيره من الأمراء بالخليفة وطلبوا خدمته فاستخدمهم واتفق معهم‏.‏

واتفق أن إنسانًا أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود فأرسل الخليفة إلى مسعود في إعادتهم إليه فلم يفعل واحتج بأشياء فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخره عن المسير معه وأرسل إليه يلزمه بالمسير معه أمرًا جزمًا فبينما الأمر على هذا إذ جاءه الخبر بوفاة أخيه طغرل وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم وكان خيرًا عاقلًا عادلًا قريبًا إلى الرعية محسنًا إليها وكان قبل موته قد خرج من داره يريد السفر إلى أخيه السلطان مسعود فدعا له الناس فقال‏:‏ ادعو بخيرنا للمسلمين‏.‏

ولما توفي ووصل الخبر إلى مسعود سار من ساعته نحو همذان وأقبلت العساكر جميعها إليه واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد وكان قد خرج في صحبته هو وأهله ووصل مسعود إلى همذان واستولى عليها وأطاعته البلاد جميعها وأهلها‏.‏

  ذكر قتل شمس الملوك وملك أخيه

في هذه السنة رابع عشر ربيع الآخر قتل شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق وسبب قتله أنه ركب طريقًا شنيعًا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة وكرهه أهله وأصحابه ورعيته‏.‏

ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكي يسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول وأخلى المدينة من الذخائر والأموال ونقل الجميع إلى صرخد وتابع الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه ويقول له‏:‏ إن أهملت المجيء سلمتها إلى الفرنج فسار زنكي وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر‏.‏

ثم إنها ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه فلما رأته على ذلك أمرت غلمانها بقتله فقتل وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه فلما رأوه قتيلًا سروا لمصرعه وبالراحة من شره‏.‏

وكان مولده ليلة الخميس سابع جمادى الآخرة سنة ستة وخمسمائة وقيل كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكنًا منه حاكمًا في دولته ثم في دولة شمس الملوك فاتهم بأم شمس الملوك ووصل الخبر إليه بذلك فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر وتحصن بها وأظهر الطاعة لشمس الملوك فأراد قتله أمه فبلغها الخبر فقتلته خوفًا منه والله أعلم‏.‏

ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري وجلس في منصبه وحلف له الناس كلهم واستقر في الملك والله أعلم‏.‏

في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق وكان نزوله عليها أول جمادى الأولى وسببه ما ذكرنا من إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعاءه ليسلمها إليه فلما وصلت كتبه ورسله بذلك سار إليها فقتل شمس الملوك قبل وصوله ولما عبر الفرات أرسل إليه رسلًا في تقرير قواعد التسليم فرأوا الأمر قد فاته إلا أنهم أكرموا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب وعرف زنكي قتل شمس الملوك وأن القواعد عندهم مستقرة لشهاب الدين والكلمة متفقة على طاعته فلم يحفل زنكي بهذا الجواب وسار إلى دمشق فنازلها وأجفل أهل السواد إلى دمشق واجتمعوا فيها على محاربته‏.‏

ونزل أولًا شماليها ثم انتقل إلى ميدان الحصار وزحف وقاتل فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقًا تامًا على محاربته وقام معين الدين أنز مملوك جده طغدكين في الحادثة بدمشق قيامًا مشهودًا وظهر من معرفته بأمور الحصار والقتال وكفايته ما لم ير وما كان سبب تقدمه واستيلاءه على الأمور بأسرها على ما نذكر إن شاء الله تعالى‏.‏

فبينما هو يحاصرها ووصل رسول الخليفة المسترشد بالله وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر بخلع لأتابك زنكي ويأمره بمصالحة صاحب دمشق الملك ألب أرسلان محمود الذي مع أتابك زنكي فرحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة المذكورة‏.‏

قد ذكرنا سنة ست وخمسمائة أن الحافظ لدين الله صاحب مصر استوزر ابنه حسنًا وخطب له بولاية العهد فبقي إلى هذه السنة ومات مسمومًا وسبب ذلك أن أباه الحافظ استوزه وكان جريئًا على سفك الدماء وكان في نفس الحافظ على الأمراء الذين أعانوا أبا علي بن الأفضل حقد ويريد الانتقام منهم من غير أن يباشر ذلك بنفسه فأمر ابنه حسنًا بذلك فتغلب على الأمر جميعه واستبد به ولم يبق لأبيه معه حكم وقتل من الأمراء المصريين ومن أعيان البلاد أيضًا حتى إنه قتل في ليلته واحدة أربعين أميرًا‏.‏

فلما رأى أبوه تغلبه عليه أخرج له خادما من من خدم القصر الأكابر فجمع الجموع وحشد من الرجالة خلقًا كثيرا وتقدم إلى البلد فأخرج إليهم حسن جماعة من خواصه وأصحابه فقاتلوهم فانهزم الخادم وقتل من الرجالة الذين معه خلق كثير وعبر الباقون إلى بر الجزيرة فاستكان الحافظ فصبر تحت الحجر‏.‏

ثم إن الباقين من الأمراء المصريين اجتمعوا واتفقوا على قتل حسن وأرسلوا إلى أبيه الحافظ وقالوا له‏:‏ إما أنك تسلم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعًا فاستدعى ولده إليه واحتاط عليه وأرسل إلى الأمراء بذلك فقالوا‏:‏ لا نرضى إلا بقتله‏.‏

فرأى أنه إن سلمه إليهم طمعوا فيه وليس إلى إبقائه سبيل فأحضر طبيبين كانا له أحدهما مسلم والآخر يهودي فقال لليهودي‏:‏ نريد سمًا نسقيه لهذا الولد ليموت ونخلض من هذه الحادثة‏.‏

فقال‏:‏ أنا لا أعرف غير التقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية‏.‏

فقال‏:‏ أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة‏.‏

فقال له‏:‏ لا أعرف شيئًا‏.‏

فأحضر الطبيب المسلم وسأله عن ذلك فصنع له شيئًا فسقاه الولد فمات لوقته فأرسل الحافظ إلى الجند يقول لهم‏:‏ إنه قد مات‏.‏

فقالوا‏:‏ نريد أن ننظر إليه فأحضر بعضهم عنده فرأوه وظنوه قد عمل حيلة فجرحوا أسافل رجليه فلم يجر منها دم فعلموا موته وخرجوا‏.‏

ودفن حسن وأحضر الحافظ الطبيب المسلم وقال له‏:‏ ينبغي أن تخرج من عندنا من القصر وجميع ما لك من الإنعام والجامكية باق عليك وأحضر اليهودي وزاده وقال له‏:‏ أعلم أنك تعرف ما طلبته منك ولكنك عاقل فتقيم في القصر عندنا‏.‏

وكان حسن سيء السيرة ظالمًا جريئًا على سفك الدماء وأخذ الأموال فهجاه الشعراء فمن ذلك ما قال المعتمد بن الأنصاري صاحب الترسل المشهور‏:‏ لم تأت يا حسن بين الورى حسنًا ولم تر الحق في دنيا ولا دين قتل النفوس بلا جرم ولا سبب والجور في أخذ أموال المساكين لقد جمعت بلا علم ولا أدب تيه الملوك وأخلاق المجانين وقيل إن الحافظ لما رأى ابنه تغلب على الملك وضع عليه من سقاه السم فمات والله أعلم‏.‏

ولما مات حسن استوزر الحافظ الأمير تاج الدولة بهرام وكان نصرانيًا فتحكم واستعمل الأرمن على الناس فاستذلوا المسلمين وسيأتي ذكر ذلك سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر مسير المسترشد بالله إلى حرب السلطان مسعود وانهزامه

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود في شهر رمضان وسبب ذلك أن السلطان مسعودًا لما سافر من بغداد إلى همذان بعد موت أخيه طغرل وملكها فارقه جماعة من أعيان الأمراء منهم يرنقش بازدار وقزل آخر وسنقر الخمارتكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغايرك وغيرهم خائفين منه مستوحش ومعهم عدد كثير وانضاف إليهم دبيس بن صدقة‏.‏

وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان ليحضروا خدمته فقيل له‏:‏ إنها مكيدة لأن دبيسًا معهم وساروا نحو خوزستان واتفقوا مع برسق بن برسق فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة ابن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم‏.‏

وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دبيس والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه فبلغه ذلك

فهرب إلى السلطان مسعود‏.‏

وسار الأمراء إلى بغداد في رجب فأكرمهم الخليفة وحمل إليهم الإقامات والخلع وقطعت خطب السلطان مسعود من بغداد وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود وأقام في الشفيعي فعصى عليه بكبه صاحب البصرة فهرب إليها فراسله وبذل له الأمان فلم إليه‏.‏

وتريث الخليفة عن المسير وهؤلاء الأمراء يحسنون له الرحيل ويسهلون عليه الأمر ويضعفون عنده أمر السلطان مسعود فسير مقدمته إلى حلوان فنهبوا البلاد وأفسدوا ولم ينكر عليهم أحد شيئًا ثم سار الخليفة ثامن شعبان ولحق به في الطريق الأمير برسق بن برسق فبلغت عدتهم سبعة آلاف فارس وتخلف بالعراق مع إقبال خادم المسترشد بالله ثلاثة آلاف فارس‏.‏

وكان السلطان مسعود بهمذان في نحو ألف وخمس مائة فارس وكان أكثر اصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة فتريث في طريقه فاستصلح السلطان مسعود اكثرهم حتى صاروا في نحو خمسة عشر الف فارس وتسلل جماعة كثيرة من عسكر الخليفة حتى بقي في خمسة آلاف وارسل أتابك زنكي نجدة فلم تلحق‏.‏

وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضر بنفسه وعسكره فلم يفعل المسترشد ذلك وسار حتى بلغ دايمرج وعبأ أصحابه

فجعل في الميمنة يرنقش بازدار ونور الدولة سنقرجة وقزل آخر وبرسق بن برسق وجعل في الميسرة جاولي وبرسق شراب سلار وأغلبك الذي كان الخليفة قد قبض عليه وأخرجه من محبسه‏.‏

ولما بلغ السلطان مسعودًا خبرهم سار إليه مجدًا فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان وانحازت ميسرة الخليفة مخامرة عليه إلى السلطان مسعود فصارت معه واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالًا ضعيفًا ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتحرك من مكانه وانهزم عسكره وأخذ هو أسيرًا ومعه جمع كثير من أصحابه منهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة وصاحب المخزن ابن طلحة وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم وأنزل الخليفة في خيمة وغنموا ما في معسكره وكان كثيرًا فحمل الوزير وقاضي القضاة وابن الأنباري وصاحب المخزن وغيرهم من الأكابر إلى قلعة سرجهان وباعوا الباقين بالثمن الطفيف ولم يقتل في هذه المعركة أحد وهذا من أعجب ما يحكى‏.‏

وعاد السلطان إلى همذان وأمر فنودي‏:‏ من تبعنا إلى همذان من البغداديين قتلناه فرجع الناس كلهم على أقبح حالة لا يعرفون طريقًا وليس معهم ما يحملهم وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عبيد فقبضوا جميع أملاك الخليفة

وثار جماعة من عامة بغداد فكسروا المنبر والشباك ومنعوا من الخطبة وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلًا وهرب الوالي وحاجب الباب‏.‏

وأما السلطان فإنه سار في شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود وكان قد عصى عليه فنزل على فرسخين من مراغة والمسترشد معه فترددت الرسل بين الخليفة وبين السلطان في الصلح فاستقرت القاعدة على ما نذكره إن شاء الله والله الموفق‏.‏